Featured Video

مرحبا بكم في مدونة مدرسة الليمون بتازة،نتمنى أن تنال رضاكم

مسالك البحث في الجامعات: المسألة و المساءلة


المصطفى مرادا/جريدة المساء 

رمي هذا القول إلى فحص مسألة مساهمة الجامعة المغربية في عالم المعرفة الإنسانية، ومنها مسألة انخراطها في تنمية مجتمعها، ثم مساءلة مراكز ومسالك البحث فيها، منطلقنا في ذلك فرضيتان جدليتان: الأولى أن الدولة المغربية ليست لها سياسة واضحة في البحث العلمي، بل وليس لها استعداد للاستثمار في المعرفة عموما، الثانية أنّ تفاقُم مظاهر التخلف في مجتمعنا له عِلل كثيرة، وعلى رأسها تخلُّف الجامعة، التي تُفوِّت على المغرب اليوم فرصته التاريخية لأن يدخل عالم المعرفة، والتي لا يساهم فيها إطلاقا. وما يعطي لهاتين الفرضيتين قوتهما ليست فقط التصنيفات الدولية، التي تضع المغربَ وجامعاتِه في أدنى المراتب العالمية، بل إن تفاقم اختلالات كل مفاصل الحياة في المغرب تجعلنا نتساءل، فعلا، عما إذا كان المسؤولون عن أغلب القطاعات العامة عندنا سبق لهم أن انتموا إلى مؤسسات بحثية، بل وقد نتساءل إن كانوا درسوا أو بحثوا أصلا!...
يتخرج عدد كبير من الدكاترة والمهندسين من الجامعات والمعاهد والمدارس العليا المغربية، لكن نسبة كبيرة من هؤلاء يعتقدون أنهم بتخرجهم يكونون قد بلغوا المعرفة القصوى وجمعوا الفضائل من أطرافها، فيتوقف بحثهم وفضولهم المعرفي، ليحل محلَّه «البحثُ» عن الامتياز الاجتماعي والاقتصادي.. مع أن الحق هو أن حصول باحث على شهادة عليا، انطلاقا من أطروحة، معناه إعطاؤه الضوء الأخضر للبدء في إتمام المشوار الذي دشنه بهذه الأطروحة وليس معناه أنه قد أنهى المشوار...
يحدث كثيرا أن نمر بشارع مقطوع الأوصال أو بطريق عامة مختنقة بالمياه العادمة أو نرى بنايات عامة حديثة البناء ومتهالكة الجدران، فنتساءل إن كانت هذه الطريق وهذا البنيان من نتاج عقل مهندس أو من نتاج بَنّاء أمّي تم جلبه من «الموقْفْ»! فما يقع من فيضانات في المغرب كل سنة، مثلا، لا يعزى إلى الطبيعة، بل إلى البشر، فمهْما كانت كمية الأمطار، فإن المهندس المبدع والمخلص لا يمكن أن يغيب عنه هذا المعطى. لقد سمعنا مسؤولين يتكلمون عن نسبة التساقطات، وهذا عذر أقبح من ذنب، فالأمطار تسقط كل سنة، منذ بدء الخلق، لكنْ عندما تسقط عندنا، فهي مناسبة تكشف «سقوط» أخلاق مهندسينا وأخلاق القيِّمين على الصفقات العامة في المغرب، وهذا مشكل أخلاقي وقانوني مرده ثقافة التسيّب وأنظمة المحميات في دواليب الدولة.. وهذا مستوى آخر.
فالفيضانات لا تواجه فقط بالنشرات الإنذارية وبـ»بريكولاج» ما بعد الفيضانات، بل تحدٍّ للجسم الجامعي أيضا، بأن يجد حلولا نهائية ودائمة لمشكلات لا تخلقها الطبيعة بل تخلقها «العقول» غير المفكرة، التي انتهى عهد أصحابها بالبحث منذ حصولهم على دبلوماتهم.
وإذا كانت الفيضانات ليست الاختلالَ الوحيد في بلادنا، فإن حلول الاختلالات التي تعيشها القطاعات العامة في المغرب لا توجد إلا في مختبرات البحث العلمي ومراكز ومسالك البحث الجامعي، وخارج هذا الاختيار، تصبح كل مقارباتنا علامة على عدم جديتنا بل وعلى استهتارنا بمستقبل بلدنا.. وهذه مسؤولية الدولة أولا.
إن تحديات كالأمن الغذائي والتصحر والفيضانات والتلوث والإسكان وندرة المياه والطاقة، ثم مشكلات أخرى، كالرداءة الفنية والتطرف الديني والعنصرية العرقية وضعف الجودة في التربية واستفحال الجريمة والفساد الإداري والأخلاقي وفساد المشهد الحزبي والنقابي واستمرار الأمية.. كلها تحديات ومشكلات يمكن للبحث العلمي الجامعي أن يساهم، فعليا، في بلورة حلول لها، فالحلول الإستراتيجية لمشكلة الأمن الغذائي لا توجد في مخازن الدول الغربية، وحلول مشكلة الطاقة لا توجد في آبار الدول الشرقية، وحلول التصحر والتلوث وندرة المياه لا توجد في الحملات التحسيسية، بل إن كل هذه المشكلات ستبقى مصدر استنزاف خطير لأرواح المغاربة وثرواتهم الوطنية، ما لم يَتمَّ تبني إستراتجية ترمي إلى إدخال البحث العلمي في صلب هذه الهواجس، فالحلول الحقيقية تعطيها المعرفة العلمية، هذا هو مفتاح التنمية...
يسري الأمر ذاته على مواجهة الاختلالات ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية والقيمية، فما تعرفه شخصية المغربي اليوم من تحولات معقدة جدا، وخصوصا في العقدين الأخيرين، أكبر من أن يدركها ويتعامل معها بإنصاف قاضٍ أو مُرَبٍّ أو حزبي أو مشرّع أو فقيه أو رجل أمن أو اقتصادي.. لأن كل هؤلاء يتعاملون مع شخصية مغربية مختلفة ومنزاحة، وهي غير الشخصية التي عرفوها في تكويناتهم المهنية الأساسية، لأنه يحصل أن تسمع بعض التحليلات  التي يقدمها رجال قانون أو رجال تربية أو رجال سياسة أو فقهاء أو رجال تاريخ... إلخ. فيترسّخ لديك اليقين بأن هؤلاء لا يعرفون عماذا يتكلمون أو بأنهم يتكلمون عن مغربي لا يوجد إلا في أذهانهم، وهذه مشكلة حقيقية، لأن الذي له الحق في ذلك هو الباحث الذي يملك أدوات رصد الظواهر الإنسانية ووضع فرضياتها واستخلاص قوانينها، ورجل القانون أو التربية أو السياسة أو الفقه أو الفن، الذي لا يستند في أحكامه إلى القول العلمي المستند إلى البحث المستمر في فهم الظواهر الإنسانية، يجدر به أن يصمت عن التنظير وعن إصدار أحكام القيمة وأشكال الأقْيِسة الظنية والتخيلية التي لا تفيد الواقع، بقدر ما تضرّ بأصحابها ومن يقع تحت تأثيرهم، فنحن بصدد واقع مغربي آخر، وهذه مسؤولية الجامعة، ثانيا.
إذن، فالمغرب في حاجة، اليوم، إلى تفعيل البحث العلمي وفتحه على واقعه، وهذا أضحى أمرا لا محيد عنه، فإذا كنا فعلا جادين ومسؤولين في شعارات التنمية، بكل أنواعها ومستوياتها، فإنه من العقلانية أن تعيد الدولة النظر في إستراتيجيتها المعتمدة في البحث العلمي، ذلك أن حال أغلب مختبراتنا ومكتباتنا ومرافقنا الجامعية تعطي فكرة أخرى عن انعدام هذه الإستراتيجية أو، على الأقل، عدم جديتها، حيث ما يزال الباحثون يستعملون تجهيزات وأدوات تنتمي إلى صومال القرن الإفريقي، وليس إلى المغرب، جار العملاق الأوربي، وأنا أقول «عملاق»، لأن ما تخصصه إسبانيا، وهي «الطفلة»، إذا ما قورنت، أوربيا، بألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ما تخصصه لتشجيع سبل البحث العلمي، بكل مجالاته، يفوق أربع مرات ما يخصصه المغرب لقطاعاته السيادية العامة، ليس لأن إسبانيا غنية، فنحن منها أغنى وفق المعايير التقليدية للغنى (الثروات الطبيعية، التنوع المجالي، الاستقرار السياسي...) لكنْ وفق المعايير الجديدة لعالم المعرفة، نحن لسنا فقط «أطفالا» بالنسبة إليها، بل نحن «نطفة» مستقرة في رحِم.!..
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More